fbpx
المصدر: يوتيوب

نظرة على الفناء المظلم لقاعة عمل شديدة الإضاءة

فكرة الشِباك عبقرية، إذ تلتقط الأجساد المتساقطة مثلما تلتقط الناموسية الحشرات، كما أنها تُفقد العمّال الأمل في الخلاص وتحدّ من الانتحار سيء السمعة
ــــــــ العمل
4 مايو 2021

توفر “بيغاسوس” و”إكزيت” السويسريتان خدمة شديدة الخصوصية، حيث تساعد المؤسستان، منذ نهاية التسعينيات، المقبلين على الانتحار على تحقيق هذه الرغبة، وتقع هذه الخدمة تحت قانون يكفل الحق في الموت، وقد باتت تعرف اليوم بـسياحة الانتحار بعدما أصبح الزاهدون في الحياة من المقتدرين يطيرون إلى سويسرا من بلاد بعيدة ليموتوا فيها بعيداً عن ذويهم وبلادهم في مبنى مخصص لهذه المهمة.

غالباً ما يفسر هؤلاء لجوءهم إلى هذه الخدمة برغبتهم في الموت بكرامة، أي أنهم بعبارة أخرى هاربون من إهانة ما وقعت أو قد تقع على أجسادهم وأنفسهم ويدفعون مقابل إزهاق حياتهم الرسوم المطلوبة التي تصل إلى عشرة آلاف يورو، وهذه قيمة أرخص العروض والشاملة للترجمة وتقصير مدة الانتظار وغيرها من الخدمات الإضافية.

راجت سياحة الانتحار بعدما أصبح الزاهدون في الحياة من المقتدرين يطيرون إلى سويسرا من بلاد بعيدة ليموتوا فيها بعيداً عن ذويهم وبلادهم في مبنى مخصص لهذه المهمة

أحسب أن هذه ليست بالبداية الموفقة للكتابة عن العمّال والعمل، لكنها بدت مناسبة للحديث عن “الشِباك المضادة للقفز” أو “المضادة للانتحار” من حيث أنها تناقض سياحة الموت السويسرية على نحو مثير للتهكم والشفقة والأسى في آن. فقد صُمّمت هذه الشِباك للقبض على العمّال الذين يحاولون الهروب من المصانع إلى العالم الآخر بالمجان.

وقد تسرّب أمرها أول مرة عام 2010، حين أحاط مصنع فوكسكون Foxconn، في مدينة شنزين جنوب الصين، مهاجع العمال الرمادية بشباك صفراء ضخمة بعدما انتحر خمسة منهم في شهر واحد تبعهم 15 آخرين في السنة نفسها برمي أنفسهم من الأسطح والنوافذ.

تبدو فكرة الشِباك عبقرية، إذ تلتفّ حول المباني لتلتقط الأجساد المتساقطة مثلما تلتقط الناموسية الحشرات، كما أنها تُفقد العمّال الأمل في الخلاص وتحدّ من الانتحار سيء السمعة. ومن جهة أخرى، فإن كلفتها أقل بكثير من تنفيذ خطة لتحسين شروط العمل، وقد أضاف المصنع إليها أن يوقّع العامل تعهداً عند انضمامه لفوكسكون بعدم الانتحار. وقد فتشت كثيراً، بلا جدوى، عن طبيعة هذه التعهدات لأعرف الشرط الجزائي المترتب على المنتحر، ولكن يمكن التخمين أنه يتعلق بالحرمان من أي مستحقات لعائلة المنتحر أو شيء من هذا القبيل، فأي عقاب يمكن أن يقع على عامل ميت!

“فوكسكون” في الصين هي أكبر مصانع آبل ومايكروسوفت الأميركية في العالم، وعلى كشوف مرتباتها مليون وثلاثمئة عاملة وعامل يتوزعون على مبانٍ مختلفة، يعملون لفترات طويلة تتجاوز أحياناً 12 ساعة يوميًا، وليس على هؤلاء أن يرفعوا سقف آمالهم في أخذ إجازة أو السفر إلى ذويهم في المدن البعيدة، صحيح أن الأوفر تايم مدفوع الأجر، لكنه شبه قسري أيضًا ولا يترك التملص منه أو الاعتراض عليه بلا عواقب، وفق تقارير إخبارية ووثائقيات متاحة على يوتيوب.

في المصنع يجري توزيع العمال على مناوبات منها فترات عمل ليلية، ويبدو، من الشهادات المختلفة ومذكرات بعض العمال الذين قضوا، أنه لسبب ما، عند إلحاقك بهذه الفترة فمن الصعب جدًا تغييرها إلى شيفت نهاري؛ ليعيش معها العامل حالة من الاحتراق النفسي والجسدي والعصبي.

كثيرًا ما يقضي المناوب في خط التجميع ساعاته واقفًا يلصق شريطًا شفافًا أسفل اللابتوب أو الآيباد يحمل اسم وعلامة ونوع الجهاز، إذ يصل مجموع الأشرطة التي يلصقها الواحد منهم إلى ثلاثة آلاف في كل مناوبة. تحدث بعض العمّال في مذكراتهم أيضًا عن الإذلال والمهانة العلنية عند ارتكاب أي خطأ أو تباطؤ، إلى جانب فرض غرامات كبيرة تأكل قطعة معتبرة من الأجور العادية التي تبلغ 550 دولارًا.

الشريط الشفاف اللاصق الذي يضعه العمال أسفل أي جهاز بعد تجميعه يقول صراحة “صُنع في أميركا وجُمع في الصين”؛ عبارة تلخص لحظة نادرة من الانسجام بين قوتين متعاديتين

حين تسربت هذه القصة في 2010 أعلنت مؤسسة ستيف جوبز أنها لم تكن على دراية بما يحدث وأنها ستحقق بنفسها في المسألة وستغير من وضع العمال في مصانعها، ولكن حوادث انتحار العمال كانت قد وقعت في 2006، ثم عادت وحدثت في 2010 و2012، ثم وقعت محاولات أخرى في 2016 و2017، إلى جانب موجات من التهديد بالانتحار الجماعي اجتمع في إحداها 150 عامل تجميع ومطور ألعاب.

ما زالت الشباك المضادة للانتحار منصوبة اليوم حول مباني فوكسكون المحمية بحراسة أمنية كما لو كانت مواقع عسكرية، إلى جانب وجود اللافتات التحذيرية العدوانية: “منطقة المصنع مُحددة قانونيًا بموافقة الدولة. العبور من دون تصريح محظور. ستتم مقاضاة الجناة”، كما يذكر الصحافي بريان مارشنت الذي دخل تلك المنطقة وألف كتابه “الجهاز الواحد: التاريخ السري لآيفون”.

يمكن تصور مصانع فوكسكون باعتبارها دولة وحدها من حيث أنها أكبر رب عمل خاص في الصين يمتد على مساحة مترامية الأطراف، حتى أن ستيف جوبز علّق مخففًا من وطأة نسب الانتحار في مصانعه آنذاك بأنه رقم قريب من المعدل القومي للانتحار في أميركا، ورد بعض العمّال بإطلاق لقب “التفاحة العفنة” على “آبل”.

ولكن لا يمكن أن نلقي باللوم في هذه الحالة على ظروف وآليات العمل في الصين وحسب، فالشريط الشفاف اللاصق الذي يضعه العمال أسفل أي جهاز بعد تجميعه يقول صراحة “صنع في أميركا وجمع في الصين”؛ عبارة تلخص لحظة نادرة من الانسجام بين قوتين متعاديتين.

نظرة على الفناء المظلم لقاعة عمل شديدة الإضاءة

المصدر: iphonedigital. تحت رخصة المشاع الإبداعي

ماركس في وادي السيليكون

في عام 2015، ظهر كارل ماركس في إحدى نسخ لعبة الفيديو “أساسينز كريد” التي أطلق عليها منتجوها “نقابة”. كان صاحب “رأس المال” يطلب من مجرميْن مأجوريْن اقتحام مصنع للحصول على ملفات منه ليعرف واقع العمل فيه ويفترض أن مهمتك كلاعب حماية ماركس وقتل الجواسيس والقضاء على أي خطر يهدده. ورغم أن أجواء اللعبة تضعنا في زمن لندن الفكتورية، لكن حضور ماركس الافتراضي والمفاجئ يدفع إلى التساؤل عن استدعائه في لعبة فيديو، وربما نفكر قليلًا في أمر الـسايبر-بروليتاريا.

يتسع مصطلح السايبر-بروليتاريا ليشمل أشكالًا لا حصر لها من العمل، من مطوري البرامج وألعاب الفيديو، إلى سائقي الأوبر فعاملات وعاملي الهواتف في الهند، وعمال مناجم كولتان في الكونجو وضحايا منجم “صوما” في تركيا، وحتى الشغيلة في “مصانع اللايك المزيفة” الممتدة من جنوب شرق آسيا وصولًا إلى ألمانيا والعاملات المهاجرات، حيث يعتمد رأس المال في القرن الحادي والعشرين على العمل غير الرسمي، أو العمل بالسخرة، وأشكال أخرى من عمل الظل، وكثير منها يحدث الآن عبر الشبكات الرقمية. بل يدخل في هذا المصطلح أيضًا العاطلون عن العمل.

فإن كان البروليتاري هو من لا يملك سوى قوة العمل الذي يبيع، فإن ذلك لا  يعني أن مثل هذا البيع قد تم بالفعل، لا سيما أن نسبة كبيرة من هذه الطبقة عاطلة عن العمل اليوم.

كما أن البروليتاري يعيش استمرارية العثور على وظيفة وفقدانها وما يترتب على ذلك من مفاقمة للهشاشة المتأصلة لديه، والتي تصاعدت بشكل غير مسبوق مع الثورة الرقمية وحلول رأس المال الشبكي، خاصة وأن هذا الأخير يحتاج إلى عمال من نوعين؛ “السايبورغ” و”العبيد” على حد سواء، وفقًا لما تناقشه الباحثة سيلفيا فيدريتشي في كتابها “الثورة عند النقطة صفر”.

يعتمد رأس المال في القرن الحادي والعشرين على العمل غير الرسمي، أو العمل بالسخرة، وأشكال أخرى من عمل الظل، وكثير منها يحدث الآن عبر الشبكات الرقمية

ارتبطت بواكير صناعة ألعاب الفيديو بباحثين ومبرمجين ملحقين ببرنامج طويلة ومعزولة تابعة للجيش الأميركي، وكان ابتكار أوائل ألعاب الفيديو في الخمسينيات (“بلاك جاك” و”تيك تاك تو”) من قبلهم شكلًا من أشكال المقاومة والرفض لممارسات العمل المرهق والطويل التي يخضعون إليها كعاملين في برامج سرية، حسبما يروي الباحث جيمي وودكوك في كتابه “ماركس في الآركيد”، كان هذا اللهو بمثابة هروب أو احتجاج هؤلاء العلماء والمبرمجين المعزولين في مشاريع مرتبطة بالأمن القومي الأميركي.

اليوم، يعمل مطورو الألعاب في استوديوهات مختلفة تسيطر عليها شركات كبرى باتت معروفة في وادي السيليكون، وحين يلتحق مطور بإحدى هذه الشركات يطلب منه توقيع تعهد بالحفاظ على السرية في كل ما يتعلق بسياسات المؤسسة الداخلية وطبيعة اللعبة، ليس هذا فقط بل يجري عزل المطورين عن المجتمع الخارجي طالما أن اللعبة قيد العمل خوفًا من تسريب شيء عن اللعبة للمنافسين.

كما يعزلون عن بعضهم البعض ويمنع التواصل المباشر بينهم خلال ساعات طويلة من الشغل تستمر ستة أيام في الأسبوع، بعضهم لا يرى خلالها النور ولا عائلاتهم إلى أن تنتهي اللعبة. لا شك في أنهم يتلقون عن العمل أجورًا معقولة ولكن معظمهم يعمل بعقود مؤقتة وبلا ضمانات اجتماعية أو صحية من أي نوع.

كذلك يذكر وودكوك كيف أنه كثيرًا ما يجري سحب اللعبة من المطور العامل في منتصف العملية لتُعطى إلى مطور آخر ويقدم إليه هو لعبة سحبت من مطور ثالث وهكذا، فعلى هذا النحو يجري تجنب أن يصبح لأي معلومات يملكها عن اللعبة قيمة معنوية أو مادية، ويتم تفكيك أي ارتباط بين العامل وما ينتجه أولًا بأول.

تبدو لعبة “نقابة” التي ظهر فيها ماركس كما لو كانت نوعًا من إعادة التفكير في الاحتجاج العمالي، ناقش المطورون فيها أفكارًا ماركسية عن العمل والإنتاج والقيمة من خلال حركة المفكر الألماني نفسه داخل العالم الافتراضي الذي يخلقونه بظروف عمل سيئة، ويلبون دعوته إلى الدخول في المصنع للكشف عن حقيقة ما يعيشه العمال ومحاولة تحريرهم.

في نهاية الأمر ألم تبدأ ألعاب الفيديو كمقاومة لصاحب العمل؟ هل كانت لعبة “نقابة” جزءًا من تفكير المطورين أنفسهم في واقعهم الذي حولوه إلى لعبة تتخفى في روح القرن التاسع عشر؟ لا سيما وإن عرفنا أن المطورين مؤخرًا أسسوا اتحادًا عامًا ينضوون تحته إلى جانب اتحادات أصغر في بريطانيا وأميركا.

نظرة على الفناء المظلم لقاعة عمل شديدة الإضاءة

المصدر: يوتيوب

العمل أو الموت/ العمل والموت

قبل أيام نشرت الصحف الإماراتية خبرًا حول إنقاذ عامل آسيوي من محاولة إلقاء نفسه من مبنى، بعدما سمع من زملائه أن صاحب العمل سيطرده، هل كان رفاقه يمزحون معه؟ يا لها من مزحة! يدافع العامل عن شقائه اليومي بروحه إن لزم الأمر، ويدفع البطالة بالموت، ربما فكر أنه هكذا قد يثني رب العمل عن نيته، إما العمل أو الموت. وانتحار العمال الذين غالبًا ما يشار إليهم بالآسيوين، ليس بالخبر الغريب في دبي، الغريب هذه المرة أن العامل نجا.

طبعًا تتفاوت نسب الانتحار كل عام، وليس من السهل الوصول إليها لكن بعض التقارير تعطي فكرة أوضح عن الواقع، ومنها تقرير نشرته رويترز سابقًا. مثلًا في 31 مايو 2011، صعد العامل الهندي أثيرامان كنان إلى مكان عمله المعتاد في الطابق 147 من برج خليفة في دبي، وبعد مدة من وصوله في ذلك الصباح الباكر ألقى بنفسه ليموت في الطابق 108، تلاه بعدة أيام عامل آخر قفز من الطابق الرابع في معسكر العمل.

ألم يسمعوا في دبي بالشباك المضادة للقفز! في ذلك العام عرفت الإمارة انتحار 26 عاملاً هندياً (لا تشمل الإحصائية العمال من جنسيات أخرى)، وفي العام الذي سبقه 113 منهم وفي الذي سبقه 147، أي أن عاملًا انتحر كل ثلاثة أيام.

لكن لماذا غيّر كنان روتينه اليومي ذلك النهار؟ عادة ما تلقي التقارير التي تنقل أخبار انتحار العمال في دبي باللائمة على الاكتئاب، معظمهم كانوا مصابين بالاكتئاب، القليل منهم كان يبدو عاديًا “لكنهم يفتقدون أسرهم” بحسب تصريح السفير الهندي آنذاك عن أسباب انتحارهم.

لكن من يلاحظ مئات الآلاف من جيوش العمال في دبي؟ إنهم كالنمل في مواقع البناء والمولات يشكلون 87% من قوة العمل في البلاد. وفي الوقت الذي تصلك رسالة تحذير من الخروج في الصهد، ليس مستهجنًا أن تلمح بعضهم يعملون في تعبيد الشوارع أو حفر المجاري مثلًا أو التأسيس لبرج جديد.

يبلغ معدل راتب العامل في دبي ألف درهم شهريًا، (270 دولارًا)، ويخضع استجلابه لنظام الكفالة فيسحب منه جوازه فور وصوله، وقد يمتنع رب العمل عن إعطائه أول شهرين من راتبه، ويصل العامل مديونًا أصلًا لوكالة الاستقدام في بلده.

ينتحر العمال ربما أملًا في أن يعيلوا وهم موتى، أهاليهم المحبطين من شح التحويلات، أكثر مما فعلوا أحياءً. ينتحر العمال ربما أملًا في أن يحسب رب العمل أو القضاء موتهم إصابة عمل ويعوض عائلته عنها! ولكن ألا يعدّ الانتحار هكذا فعلًا إصابة عمل!

المفروض أن الإمارات منذ ذلك الوقت أعلنت عن إجراءات جديدة تحسن أوضاع العمال الوافدين وتحمي أجورهم وتضبط ساعات عملهم خاصة في الصيف والأهم أنها نجحت في أن تخفف لهجة التقرير السنوي لمنظمة “هيومان رايتس ووتش” حول أوضاع العمال فيها.

لكن رويترز تقول إن الشركات لا تلتزم بهذه التعليمات على أرض الواقع، ولا يجري تغريمها على ذلك. ولم يتلق الخط الساخن الذي أطلقوه لمساعدة المكتئبين ومن تخطر لهم الأفكار السوداء الشكاوى عن افتقاد الأحبة والحلقة المفرغة من الألم والحياة الخشنة والمهاجع اللاإنسانية والعيش في مكعب نتن مع المرحاض الفائض بخراء عشرة عمال آخرين في جحيم بلا مروحة، بل كانت غالبية المكالمات تطلب استشارات قانونية.

توصلت الباحثة فاطمة المسكري في دراستها “انتشار الاكتئاب والسلوك الانتحاري لدى العمال المهاجرين الذكور في الإمارات” إلى أنه كلما قلّت الأجور ازداد الاكتئاب، فمن تقل أجورهم عن 500 درهم في الشهر كانوا الأكثر إصابة بالاكتئاب الممرض، وأن عمال البناء هم أكثر من يفكر في الانتحار، وتعزو ذلك إلى ظروف العمل في الحر القاهر لساعات طويلة، وبناء على بحثها الذي اعتمدت فيه مقابلة مجموعة من العمال في إمارة العين، فإن التفكير في الانتحار قاد كثيرين منهم إلى أمراض جسدية مختلفة وهذا بالضرورة تسبب في تأخر قدرتهم على العمل وبالتالي خسارة وظائفهم أو أنقص من مدخولهم القليل في الأساس.

ربما يقفز بعض العمّال أملًا في “الديّة”، يحدث أن تقرأ في الصحافة عن دعاوى، يرد القاضي بعضها ويقبل بعضها، تطالب بدفع دية عامل منتحر.

نعم هناك أمل كبير في أن تدفع شركته ديته إلى أهله، ينتحر العمال ربما أملًا في أن يعيلوا وهم موتى، أهاليهم المحبطين من شح التحويلات، أكثر مما فعلوا أحياءً. ينتحر العمال ربما أملًا في أن يحسب رب العمل أو القضاء موتهم إصابة عمل ويعوض عائلته عنها! ولكن ألا يعدّ الانتحار هكذا فعلًا إصابة عمل!

نظرة على الفناء المظلم لقاعة عمل شديدة الإضاءة

المصدر: migrant-rights.org

حب وكره من طرف واحد

التحقت للعمل في إحدى المواقع الصحافية قبل سنوات، حين طُلب مني ومن زميلي أيضًا بعد أشهر من العمل أن أكتب باسم مستعار أحيانًا، ثم أعطيت مجموعة من الأسماء المستعارة اختارها المسؤول لتوحي بأنها من بلدان مختلفة، فلم يكن منطقيًا أن أغطي مؤتمراً في القاهرة وأنا في اسطنبول مثلًا، في البدء كان الأمر عاديًا لأنه لم يتكرر كثيرًا. ثم توجب علينا تزويد الموقع بمقالات وأخبار تتنوع فيها الأسماء والعواصم يوميًا، فيبدو للقارئ أن ثمة فريق عمل منتشراً على امتداد جغرافيا شاسعة.

عملنا “مراسلين من منازلهم”، حيث انتهت علاقتي الصحافية بأرض الواقع كما تقتضي أصول المهنة، وأصبحت مسألة الواقع كلمة فيها وجهة نظر، فقد كنت أغطي أي حدث في أي مدينة من دون أن أغادر مطبخي أو أبدّل بيجامتي وحتى من دون أن أكون نفسي.

بعد سنوات من العمل هكذا فقدت رغبة الكتابة باسمي، أو ربما أنني لم أعد أعرف كيف نسيت كيف كانت هوية كتابتي من قبل! أصبح وقع هذا الاسم ثقيلًا علي، وشعرت أن اسمي مات.

كان حجم الكتابة اليومية يعني ضمنيًا أن نرفع كمية الإنتاج وننزل بجودته، فظهرت لي الاسماء المستعارة بطانية دافئة لا أريد الخروج من تحتها، يمكنني أن أكتب هراء، يمكنني أن أكتب مقال الرأي الذي لا أؤمن به ويطلبه المسؤول، يمكنني أن أكتب أي شيء يريدون، المهم أن يشعر للقارئ أننا فريق عمل متنوع جندريًا ومناطقيًا لكنه على قلب رجل واحد.

انتهت علاقتي الصحافية بأرض الواقع كما تقتضي أصول المهنة، وأصبحت مسألة الواقع كلمة فيها وجهة نظر، فقد كنت أغطي أي حدث في أي مدينة من دون أن أغادر مطبخي أو أبدّل بيجامتي وحتى من دون أن أكون نفسي

كنت امرأة واحدة في فريق من أربعة رجال، ولكن على صفحات الموقع ثمة ثماني نساء يكتبن على الأقل. وجدت الأمر غريبًا، اختار المسؤول ثمانية أسماء مستعارة لنساء واسمًا واحدًا لرجل. فكرت في تفسير؛ ربما إن احتجاب المرأة بالنسبة إليه كان منطقيًا أكثر من احتجاب الرجل.

المفارقة أنه كان يختار بنفسه المقالات التي تكتب باسم الرجل المستعار، وأحيانًا كان يعترض إذا لم يكن المقال محكمًا وقويًا ويطلب أن نستبدل الاسم المستعار باسم آخر سيكون لامرأة على الأغلب.

تحول الأمر إلى مواقف طريفة حين بدأ الناس يتفاعلون مع الأسماء المستعارة على فيسبوك، حتى أنا مع الوقت صرت أفضَّل بعض الأسماء على غيرها، واخترت أن أبني شخصية لبعض منها حين أكتب بها، وأن يكون لها اهتمامات بعينها، ووجهة نظر واضحة في قضايا محددة، وهكذا فعل زميلي الآخر. كنا عامليْن في عالم من الأسماء الوهمية التي نحاول أن نحبب أنفسنا فيها، لنكون قادرين على حب عملنا، قبل أن ندرك أننا مهما أحببنا ما نفعل، فإنه لن يبادلنا الحب، حب العامل لعمله محكوم بأن يكون من طرف واحد.

يقول شيلر إن ما يجعلنا بشرًا أننا نعرف كيف نلعب، في حين أن ماركس رأى أن ما يجعلنا بشرًا أننا نعمل، الأمر أننا معزولون عن العمل الذي يجعلنا بشرًا. لذلك نحن معزولون عن جوهرنا الإنساني؛ هذا هو الشيء الأكثر رعبًا، ومنه أن تراك المؤسسة أداة تلصق الأشرطة، أو جهازًا يكتب المقالات، أو رافعة تحمل مواد البناء، أو عقلًا ينتج الألعاب.

يعمل أحدنا على خط لينتج بكميات كبيرة ولا يهتم بهذا الغريب الذي يساهم في إنتاجه، علبة الحلوى والآيفون سيّان. أنا أيضًا، حولتني المؤسسة من كاتبة إلى مجموعة من الأسماء الملفقة والتي سافرت إلى مدن لم أطأها من قبل، أعدّتني المؤسسة لعمل أنكر فيه نفسي عوضًا عن أن أؤكدّها، ألصق الأشرطة الشفافة على المقالات وأعطيها مدن إنتاج زائفة، ألم يكن كافيًا أن أوقع بعبارة أصدق.. “نوال، بلد المنشأ: المطبخ”.